أسرارُ الشكِّ

Hits: 1370

أسرارُ الشكِّ – بقلم: ليث مقادسي

الشكُّ هو أخطَرُ عدُوٍّ للإيمان، ولكنّهُ في نفسِ الوقتِ صِمَامُ أمانٍ لِرَدْءِ هَجماتِ إبليسَ... يأتي كصوتٍ للإنسانِ الذي يرغَبُ بتوليدِ إيمانٍ بالكلمتَينِ الآتِيَتَينِ: "ماذا لو ..." فيُخرِجُ ذلكَ الإنسانَ من حالةِ الثّباتِ بالإيمانِ إلى منطقَةٍ ضَبابِيّةٍ تُبَرِّدُ إيمانَهُ وتَكبَحُهُ، هذا الموضوعُ لا يقتَصِرُ على الإنسانِ الحديثِ الإيمانِ، بل حتى أبطالُ الإيمانِ وقعوا بحالاتِ شَكٍّ متنوّعَةٍ، كونُه اُسلوبَ تفكيرٍ طبيعِيٍّ وفِطريٍّ عندَ الإنسانِ، لأنْ ليس كُلُّ ما يُقالُ حقيقَةً، لذلك يحتاجُ البَشَرُ إلى جُزءٍ بسيطٍ منَ الشّكِّ، لِحِمايَةِ أنفُسِهِم مِنَ الوُقوعِ بالخطَأِ.

 

قبلَ أيّامٍ جاءَني منشورٌ عبرَ الفيسبوك مِن اَحَدِ الأقارِبِ يُحَذِّرُني مِن قُبولِ صداقَةِ أحدِ الأشخاصِ كونُ ذلكَ الشّخصِ سارِقاً للمعلوماتِ الإلكترونيّةِ، وينصَحُ المنشورُ بتعميمِ الخبَرِ على كافّةِ الأقارِبِ والأصدقاءِ الذينَ لديهِم فيسبوك. حينَ قرأتُ الخبرَ تولّدَ لدَيَّ شكٌّ مِنَ الوهلَةِ الأولى بأنَّ هذهِ اِحدَى وسائِلِ إبليسَ لإرهابِ النّاسِ وجَعلِهِم مُنشَغِلينَ بأكاذيبِهِ، فاستخدَمتُ مُحرِّكَ البحث جووجل للبحثِ عن هذا الشّخصِ فوجدتُ مقالا يؤكّدُ شكوكي حولَه فقمتُ بإرسالِ المَقالِ إلى أقارِبي لغرَضِ تطمينِهم.

 

هناكَ مصدرانِ يدعُوَانَا لتصديقِهِما، اللهُ والشيطانُ. فحينَما يدعونا اللهُ للاستماعِ لصوتِهِ وتصديقِهِ سينتفِضُ إبليسُ ويبدَأُ بالتّخطيطِ لإفشالِ هذا الموضوعِ، كونُ صوتِ اللهِ سيجلِبُ أبناءَ جُدَدَ للملكوتِ، وهذهِ ضِدَّ سياسَةِ إبليسَ الراميَةِ لجلبِ أكبَرِ عدَدٍ ممكِنٍ للهاويَةِ، لذلك سيبدَأُ بوضعِ كلمة "ماذا لو ..." كان هذا الصوتُ ليسَ مِنَ اللهِ؟ "ماذا لو ..." كانت كلمةُ الانجيلِ محرّفةً "ماذا لو ..." كانَ هذا القسُّ خاطِئاً.. وغيرُها الكثيرُ مِنَ الشّكوكِ.

 

من جهةٍ أخرى، حينما يسلكُ الإنسانُ بحسبِ حياةِ التَّصديقِ الكاملِ لوَساوِسِ إبليسَ، مُتَبَنِّياً لها، فإنَّ اللهَ أيضاً سيبدَأُ بتحذيرِهِ بطرُقِهِ الخاصّةِ. فبعضُ الناسِ يحتاجونَ القسوةَ كي يتحرّروا مِن قَبضَةِ إبليسَ وبعضُهُم قد يلتَفِتوا بالمحبّةِ، ولكِن حتى القسوةُ التي يستخدِمُها اللهُ نابِعَةٌ مِن قلبٍ مُحِبٍّ كالّذي يَقسو على ابنِهِ لأخذِ الدّواءِ عندَما يكونُ مَريضاً وهو لا يرغَبُ بالعِلاجِ، فإن لم يقتَنِعْ بالكلامِ اللَّطيفِ تصبِحُ القسوَةُ مطلوبَةً لإجبارِهِ على أخذِ العِلاجِ.

 

تجربَةُ الرّبِّ يسوعَ على الْجَبَلِ مع إبليسَ انتَهَت بخُلاصَةٍ وهي "عدمُ تصديقِ كلامِ إبليسَ حتى لو كان فيه جزءً مِنَ الحقيقَةِ" لماذا؟ لأنّ نِيَّتَهُ واحدَةٌ وهي هلاكُ الإنسانِ. على النقيضِ من ذلك، أعطانا الربُّ يسوعُ مثالا لكيفيّةِ تصديقِ اللهِ لحَدِّ الموتِ الْجَسَدِيِّ حينما صَعِدَ بِمِلءِ إرادَتِهِ للصّليبِ، لماذا؟ لأنَّ ما في قلبِ اللهِ لنا هي الحياةُ الأبديّةُ.

 

الشكُّ موضوعٌ حساسٌ ويحتاجُ للرّوحِ القدسِ والتدريبِ كي نُمَيِّزَ إن كانَ الموضوعُ مِن إبليسَ ويحتاجُ الشّكَّ أم مِنَ اللهِ، وعلينا قبولُهُ حتى لو كانَ عقلُنا مليئاً بالشّكوكِ حولَهُ. هناك أمورٌ يسهَلُ علينا إزالة الشكوكِ حولَها لأنّنا نعلم أنّها إرادَةُ اللهِ بالمُطلَقِ، كتأمينِ الخبزِ والقوتِ اليوميِّ، لأنّ مثلَ هذهِ الأمورِ تُعطَى للأبرارِ والأشرارِ، ولكِنْ هناكَ أمورٌ نحتاجُ فيها صوتَ الرّوحِ القدسِ كي نُزيلَ الشّكَّ.

 

الشكُّ بالأمورِ المختَصَّةِ باللهِ يجبُ ألا تأخُذَ جذوراً وتتحولَ لخطيئَةٍ، إذ هي كالشّهوَةِ التي إذا حَبِلَت تَلِدُ خطيّةً، والخطِيّةُ إذا كَمُلَت تُنتِجُ موتاً. يعقوب ١: ١٥ أي هناكَ عواقِبٌ سَلبِيّةٌ لتبَنّي الشّكِّ. أحدُ الذينَ سقطوا بفَخِّ الشكِّ هو ديماسُ، صديقُ بولسَ الرسولِ (٢ تيموثاوس ٤: ١٠) الذي كان يشاهِدُ نهايَةَ بولسَ بالْجَسَدِ فسمحَ للشّكوكِ حولَ وُجودِ اللهِ وصَلاحِهِ (حسبَ اعتِقادي) أن تأخُذَ جُذوراً، فقادَتهُ لتركِ بولسَ والعودَةِ للعالَمِ، بينما تلاميذٌ آخَرونَ تحدّوا تلكَ الشكوكَ وبَقوا مُخلِصينَ لبولسَ حتى النهايَةِ.

ما هي بعضُ أنواعِ الشّكِّ؟

  1. الشكُّ بوُجودِ اللهِ: أعتقِدُ أنَّ الشّكَّ باللهِ يحتَلُّ المرتبَةَ الأولى... وهذا كما قُلنا بسبَبِ وُجودِ إبليسَ والطّبيعَةِ الإنسانيّةِ المولودَةِ بالخطيئَةِ. فالإنسانُ المكتفي بكُلِّ ملذّاتِ الحياةِ، لماذا يحتاجُ اللهَ؟ بالتأكيد ليس كُلُّ المُكتَفينَ والأغنياءِ بعيدينَ عَنِ اللهِ، إذ لكُلِّ قاعدَةٍ شواذٌّ. مِن هنا ميَّزَ الربُّ بينَ خِدمَةِ المالِ واللهِ. في العام ٢٠١٨ احتلّ الملحِدونَ ثالِثَ أكبَرَ فئَةٍ إيمانيّةٍ بالعالَمِ.

  2. الشكُّ في العقيدَةِ الدينيّةِ: يأتي هذا النوعُ مِنَ الشّكوكِ عن طريقِ التأَثُّرِ بالْجَماعاتِ الدينيّةِ المختلفَةِ. وأكثرُ فئةٍ تتأثَّرُ بهذهِ الْجَماعاتِ أولئكَ الذين ليس لهم أساسٌ ثابتٌ مِنَ العَقيدةِ. قبل أيّامٍ استقبلتُ مجموعَةً مِن شُهودِ يهوى الذين كانوا يطرُقونَ الأبوابَ لينشُروا إيمانَهُمُ المزَيَّفَ بعد أن غيّرُوا في الكتابِ المقدّسِ لإثباتِ مُعتَقَداتِهِم. فدخلنا في نقاشٍ طويلٍ، وحذَّرتُهُم منَ الكثيرِ من الأمورِ المغلوطةِ التي يُؤمِنونَ بها، فسألني، هل تعرِفُ كيفَ بدأَت هذه المجموعةُ فقلتُ له كلا، فقالَ كان هناك شخصٌ انزعجَ مِنَ الاختلافِ بينَ الطّوائفِ فقرّرَ الذَّهابَ للكتابِ المقدّسِ وتفسيرَهُ بنفسِهِ ومعرفَةَ الحَقِّ بطريقَتِهِ الخاصّةِ. فما كان مني إلا هذا الردُّ: "هل تعلمُ مدى خُطورَةِ هذا الأمرِ؟ فما أسهَلَ أن آتِيَ اليومَ وأُنشِئَ طائفَةً خاصّةً بي وأتكلّمَ لهم بما أُريدُ". لم يكُنْ لديهِ جوابٌ، ولكِن أعتَقِدُ أنَّ ردّةَ فِعلي قادَتهُ للتفكيرِ. الشّكُّ في هذا الموضوعِ يُعتَبَرُ إيجابِيّاً إن كانَ سيقودُ للبحثِ والقراءَةِ عن مُختَلَفِ الطّوائِفِ للتّعرُّفِ على الذي يُؤْمِنُ مَعنا بقانونِ الإيمانِ النيقاوي ومَن هو خارِجَ هذا السّربِ، وسيكونُ سَلبِيًّا إن قادَني لكراهِيَةِ المُختَلِفِ عَنّي.

  3. الشكّ في الأحباءِ والأصدقاءِ: هناكَ مواقِفٌ تُزَعزِعُ الثِّقَةَ بالمقَرَّبينَ فتتولّدُ الشّكوكُ مِن شَتّى أنواعِ المواقِفِ. في يومٍ مِنَ الأيّامِ شكَّ أحدُ الأشخاصِ بخيانَةِ زوجتِهِ، فبدأ بالتّحَرّي إلى أن تأَكَّدَ أنّها بالفعلِ قد وقعَت في ذلك الفَخِّ الشّيطانِيِّ، فقادَ الموضوعُ لدمارِ العائلَةِ. نلاحِظُ إبليسَ يقودُ دوماً للدّمارِ والتّفرِقَةِ. أمّا تبَنّي الشكوكَ مِن دونِ بحثٍ وتأكُّدٍ فإنّهُ يقودُ للندَمِ في أغلَبِ الأحيانِ.

  4. الشكُّ في الطّقوسِ والعِباداتِ: يتمحوَرُ هذا النوعُ مِنَ الشّكوكِ حول عدَمِ الاقتناعِ بأهمِيَةِ الأمورِ المفروضَةِ على الفردِ كالصّلاةِ والصّومِ والعَطاءِ للمُحتاجِ، فالبعضُ يجادِلُ بالعشورِ ولا يقتنِعُ بها على الإطلاقِ، والبعضُ يشكِّكُ بأهمِيَةِ الأصوامِ. هذه الشكوكُ قادَت إلى انقسامِ الكنيسَةِ بعدما رفضَ البعضُ أسرارَ الكنيسَةِ، أهميةَ اتّحادِنا بقِدّيسي أورشليمَ المنتصِرَةِ وغيرِها مِنَ الأُمورِ. في هذه الأمورِ نحتاجُ إلى جهدِنا الشّخصِيِّ وعمَلِ الرّوحِ القدُسِ لإزالةِ تلكَ الشّكوكِ. هناكَ أمورٌ تبقى غيرَ مفهومَةٍ حتى بعدَ البحثِ، مثلُ موضوعِ العُشورِ. من هنا الربُّ يعلَمُ أنّها سببُ عَثرَةٍ، لذلك وضعَ معها تحَدِّياً إذ قال في سِفرِ ملاخي: "جَرِّبوني بِالعُشورِ" فالّذِي يُجَرِّبُ يختَبِرُ جُودَ الرّبِّ لكُلِّ مَن يُكرِمُهُ.

واحدِةٌ منَ الأمورِ التي كان عندي شكٌّ حولَها واستخدمتُ البحثَ الدّقيقَ ونجحتُ في هذا المَسعَى هو أكلُ لحمِ الخِنزيرِ وباقي اللّحومِ المحرَّمَةِ في العهدِ القديمِ. تَوَلَّدَ الشّكُّ حينما فاجَأَني أحَدُ المسيحيينَ مِن أفريقيا بأنّهُم لا يأكُلونَ الخِنزيرَ، إذ أنَّ كنيسَتَهُ لا تزال تؤمِنُ أنّهُ مُحَرَّمٌ، فاضطررتُ لقراءَةِ الكتابِ المقدّسِ بالكاملِ لمعرِفَةِ مِفتاحِ التشريعِ في العهدِ القديمِ، وكانَ هو "التمييزُ والتذكيرُ". اللهُ أرادَ للعِبرانِيّينَ أن يميزوا بينَ أنفُسِهِم وبينَ الشّعوبِ الذين لم يعرِفُوا الله الحقيقِيَّ، ويُذَكِّروا أولادَهُم بما صنَعَ معَهُم في مِصرَ حين أخرجَهُم مِن قَبضَةِ فِرعَونَ، إذ وصفَ تلكَ الشّعوبَ بالنّجِسَةِ. إحدى طرُقِ التّمييزِ هي الطّعامُ، فالطّفلُ الذي سيسألُ والدَيهِ، لماذا لا نأكُلُ لحمَ الخِنزيرِ مثلا، سيبدَأُ الأهلُ بالشرحِ كيفَ أنَّ اللهَ أخرَجَهُم مِن عُبودِيَّةِ المصريينَ ومَيَّزَهُم عن باقي شُعوبِ العالَمِ فيترَسَّخُ في فِكرِ الطّفلِ أنّه إنسانٌ مقدَّسٌ للرّبِّ وعليه عدَمُ مشاكَلَةِ الشّعوبِ الأخرى أو حتى التعاملُ معهُم.

 

أمّا في العهدِ الْجَديدِ فإنَّ الرّبَّ يسوعَ جاءَ ليُعطينا قوّةَ روحِهِ القُدّوسِ لكي نذهَبَ للآخَرِ ونساهِمَ بتحريرِهِ مِن قَبضَةِ الخَطيئَةِ والنّجاسَةِ الرّوحِيّةِ. فنلاحِظُهُ انفتَحَ على اليهودِ والأمَمِ ولم يَعُد هناكَ تمييزٌ حينما أعطى لبطرُسَ رؤيا قُبَيلَ لقائِهِ مع كرنيليوس القائدِ الأمَمِيِّ في الفِرقَةِ الإيطاليّةِ، ما هي تلك الرؤيا؟ كانت مُلاءةً تحوي كُلَّ أنواعِ الحيواناتِ والرّبُّ يقولُ لهُ "14 قُمْ يَا بُطْرُسُ، اذْبَحْ وَكُلْ». فَقَالَ بُطْرُسُ: «كَلاَّ يَا رَبُّ لأَنِّي لَمْ آكُلْ قَطُّ شَيْئاً دَنِساً أَوْ نَجِساً». 15فَصَارَ إِلَيْهِ أَيْضاً صَوْتٌ ثَانِيَةً: «مَا طَهَّرَهُ اللهُ لاَ تُدَنِّسْهُ أَنْتَ!». اعمال ١٠: ١٤-١٥. ثم شرَحَ بطرُسُ ما حدثَ في سِفرِ أعمالِ الرّسُلِ أيضا حين قالَ: "وَلَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ بِشَيْءٍ إِذْ طَهَّرَ بِالإِيمَانِ قُلُوبَهُمْ". اعمال ١٥: ٩"

لذلك انتهى الشّكُّ لدَيَّ حينما بحثتُ ووجَدتُ آياتٍ واضِحَةً بهذا الخُصوصِ.

 

  1. شكُّ الفردِ في نفسِهِ: يحدُثُ هذا النوعُ مِنَ الشّكوكِ عندَما يبدَأُ الشّخصُ الشّكَّ في أمورِ حياتِهِ المختلِفَةِ فيأخُذُ مَنحَى الترَدُّدِ قبلَ كُلِّ موقِفٍ. الكثيرُ مِن هذِهِ الأمورِ مبنِيّةٌ على حقائِقَ سابقَةٍ، ولكِنَّ الذي قرّرَ السيرَ معَ اللهِ بالمسيحِ يسوعَ يجبُ أن يعلَمَ أنَّ اللهَ طَوَى صفحَةَ الماضي وأعَدَّ له بِدايَةً مجيدَةً. من هنا يدعونا الربُّ بعدَمِ النّظَرِ للوراءِ. الكثيرُ مِن رجالِ الكتابِ المقدّسِ سقَطوا في هذا الفَخِّ. بعضُهم أقنعَهُمُ اللهُ وبعضُهم لم يستَطِع إقناعَهُم، مثلَ موسى الذي شكَّ في نفسِهِ بأنَّهُ لن يستطيعَ الكلامَ لِفِرعَونَ نتيجَةَ ثِقَلِ لسانِهِ فعَيَّنَ له هَرونَ أخاهُ.

يبقى المحَكُّ دوماً "ماذا ما بعدَ الشّكِّ؟" وإلى ماذا سيقودُني؟ هل إلى التصديقِ أم إلى البحثِ؟ قد يكونُ البحثُ جهداً شخصيّاً أو إعلاناً إلهيّاً. في العهدِ القديمِ حينما شَكَّ جدعونُ بأمرِ الربِّ له بأنه هو مَن سيُخَلِّصُ شعبَهُ مِن يَدِ المِديانيين طلبَ تأكيداتٍ مِنَ الرّبِّ فتجاوَبَ معهُ الرّبُّ، لأنّ الربَّ لا ينزعِجُ إن طلَبْنا التّأكيداتِ لغرضِ الاطمئنانِ، خاصّةً لحديثي العِلاقَةِ مع الربِّ، بينما في مواقفَ أخرى نجدُ البحثَ مِن خلالِ استشارَةِ احدِ الأنبياءِ أوِ القُضاةِ يكون كفيلاً بإزالةِ الشكِّ أوِ الرّجوعِ إلى الناموسِ والشّريعَةِ.

أسبابُ الشكِّ:

هناكَ أسبابٌ متعددةٌ للشكِّ، ولكني سأركِّزُ على نقطتَينِ، وهما، الخوفُ، والبيئَةُ المحيطَةُ.

 

يًعَدُّ الشكُّ والخوفُ وَجهانِ لعُملَةٍ واحدَةٍ، فعندَ وُجودِ أحدِهِما فإنّه سيقودُ إلى وجودِ الآخَرِ. أبونا إبراهيمُ خافَ مِن أن يُقتَلَ بسبَبِ زوجَتِهِ الْجَميلَةِ سارةُ وهو متغَرِّبٌ عندَ الفلسطينيينَ، فقادَهُ ذلكَ الشكُّ إلى الكَذِبِ والادّعاءِ أنّها اُختُهُ، نفسُ الشّيءِ صنعَهُ ابْنُهُ اِسحَقُ في نفسِ المكانِ معَ نفسِ الملكِ. ما الذي ولَّدَ الخوفَ والشّكَّ؟ إنّهُ قناعَتُهُما بعدَمِ وُجودِ خوفِ اللهِ في ذلكَ المكانِ، فاعْتَقَدا أنَّ الشّرَّ أقوى مِنهُما واستسلَما لِفكرِ إبليسَ بضرورَةِ الكَذِبِ، بينَما أشخاصٌ بدرجَةِ أبينا إبراهيمَ كان أسهلَ عليهِ أن يتلَقّى إعلاناً إلهِيّاً ويزيلَ شكوكَهُ لتجَنُّبِ الخطأِ.

البيئةُ المحيطَةُ: إنّ الإنسانَ الذي يعيشُ في بيئَةِ مليئَةٍ بالأشخاصِ الشكّاكينَ سيتأثّرُ بهِم. موسى سقَطَ في فَخٍّ كبيرٍ حرَمَهُ مِنَ الدّخولِ إلى أرضِ المَوعدِ بسببِ شكِّ عامّةِ الشّعبِ أنَّ اللهَ قادِرٌ على تأمينِ ماءٍ للشّربِ (بالإمكانِ قراءَةُ هذا الحَدَثِ في سِفرِ العددِ الإصحاح ٢٠) نلاحِظُ موسى يتلَقّى إعلاناً مِنَ الرّبِّ بما ينبغي فعلُهُ، ولكنْ بالرّغمِ مِنَ الإعلانِ فإنَّ إيمانَهَ كانَ مليئًا بالشّكِّ نتيجَةَ تأثّرِهِ بعامّةِ الشّعبِ فأخطأَ للربِّ.

بعضُ رُعاةِ الكنائسِ يقَعونَ في هذا الفخِّ أيضاً حينما تشتَدُّ التّجارِبُ على تلكَ الكنيسَةِ، فيبدأُ الشّكُّ يتغلغَلُ في كِيانِهِم، خاصّةً وهم يستَمِعُون لصُراخِ عامّةِ الشّعبِ المتَذَمِّرِ، مِن هنا مطلوبٌ الهدوءُ والسّكينَةُ وطلبُ صوتِ اللهِ وتنفيذُهُ بدقّةٍ لغرَضِ الخُروجِ الآمِنِ مِن ذلكَ المَخاضِ.

كيف نتغلّبُ على الشكِّ

توجدُ عدّةُ طرقٍ يستطيعُ الفردُ استخدامَها للتّغلُّبِ على الشكِّ، ولكنَّ استخدامَ هذهِ الطُّرُقِ يختلِفُ من شخصٍ لآخَرَ ومنها:

معرِفَةُ السّبَبِ الأساسِيِّ لوُجودِ الشّكِّ؛ لذلك يجبُ على الفردِ الذي يرغبُ في التغلّبِ على شكِّهِ أن يقومَ بتسجيلِ قائمةٍ بالعِباراتِ التي يقولُها لِنَفسِهِ، والتي تُثيرُ شكوكَهُ حتّى يتمكَّنَ مِن تجنُّبِها. كان الخوفُ والبيئَةُ المحيطَةُ في مراحلِ دراسَتي المختلفَةِ يشجعانِ على الشكِّ، فكنتُ أنطِقُ بخلافِ ما يُمليهِ إبليسُ وإنسانِيَ القديمُ عليَّ، فحينَما يقولُ إنَّ الامتحانَ كانَ صعباً والغالبيّةَ ستفشَلُ كنتُ أنطِقُ بأنّني ناجِحٌ بتميّزٍ باسمِ الرّبّ يسوعَ. الخَبَرُ الرائعُ أنني كنتُ دوماً على حقٍّ وذلك الصوتُ كانَ على باطِلٍ.

 

ممارسةُ التمارينِ الرياضِيّةِ، وخاصّةً تمارينُ التنفُّسِ العميقِ؛ لأنّ هذهِ التمارينَ تمنَحُ النفسَ الإرادَةَ والقدرَةَ على مواجهَةِ الشّكوكِ. في أوقاتٍ كنّا نمرُّ كعائلَةٍ بظُروفٍ صعبَةٍ مليئَةٍ بالشّكوكِ، ولكِنْ حينَما كنّا نخرُجُ للتمَشّي أنا وزوجَتي وسطَ الأشجارِ الرّائعَةِ والهدوءِ وتنفُّسِ الأوكسجينِ النقِيِّ كنّا نتخلّصُ بسهولَةٍ مِن ذلكَ الشّكِّ لأنَّ صوتَ الرّبِّ سيكونُ أوضحَ وأكثرَ تأثيراً ونحن بهذا الفعلِ نخرُجُ مِنَ البيئَةِ المُحيطَةِ لنستشيرَ اللهَ.

التطوّعُ مِن أجلِ مساعدَةِ الآخَرينَ مِمَّن يمُرّونَ بنفسِ ظُروفي؛ أعرِفُ امرأَةً أصيبَت بالسّرطانِ، وحيثُ كانَت تتعالَجُ لم تجلِسْ وتستَسلِمْ للشّكوكِ والآراءِ السّلبيّةِ بل ذهبَت وقامَت بإعطاءِ محاضراتٍ تشجيعِيّةٍ مبنيّةٍ على الإنجيلِ المقدَّسِ فكانت تبني نفسَها والآخَرينَ، فما كانَ إلّا وحصلَت على الشَّفاءِ بمُعجِزَةٍ لأنّها آمنت وعمِلَت بالكلِمَةِ.

 

دعونا نتعرّفُ على اختبارِ بطرسَ الذي شكَّ نتيجَةَ الخوفِ، إذ نقرأُ في الإنجيلِ المقدّسِ: "22وَلِلْوَقْتِ أَلْزَمَ يَسُوعُ تَلاَمِيذَهُ أَنْ يَدْخُلُوا السَّفِينَةَ وَيَسْبِقُوهُ إِلَى الْعَبْرِ حَتَّى يَصْرِفَ الْجُمُوعَ. 23وَبَعْدَمَا صَرَفَ الْجُمُوعَ صَعِدَ إِلَى الْجَبَلِ مُنْفَرِداً لِيُصَلِّيَ. وَلَمَّا صَارَ الْمَسَاءُ كَانَ هُنَاكَ وَحْدَهُ. 24وَأَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ قَدْ صَارَتْ فِي وَسَطِ الْبَحْرِ مُعَذَّبَةً مِنَ الأَمْوَاجِ. لأَنَّ الرِّيحَ كَانَتْ مُضَادَّةً. 25وَفِي الْهَزِيعِ الرَّابِعِ مِنَ اللَّيْلِ مَضَى إِلَيْهِمْ يَسُوعُ مَاشِياً عَلَى الْبَحْرِ. 26فَلَمَّا أَبْصَرَهُ التَّلاَمِيذُ مَاشِياً عَلَى الْبَحْرِ اضْطَرَبُوا قَائِلِينَ: «إِنَّهُ خَيَالٌ». وَمِنَ الْخَوْفِ صَرَخُوا! 27فَلِلْوَقْتِ قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «تَشَجَّعُوا! أَنَا هُوَ. لاَ تَخَافُوا». 28فَأَجَابَهُ بُطْرُسُ: «يَا سَيِّدُ إِنْ كُنْتَ أَنْتَ هُوَ فَمُرْنِي أَنْ آتِيَ إِلَيْكَ عَلَى الْمَاءِ». 29فَقَالَ: «تَعَالَ». فَنَزَلَ بُطْرُسُ مِنَ السَّفِينَةِ وَمَشَى عَلَى الْمَاءِ لِيَأْتِيَ إِلَى يَسُوعَ. 30وَلَكِنْ لَمَّا رَأَى الرِّيحَ شَدِيدَةً خَافَ. وَإِذِ ابْتَدَأَ يَغْرَقُ صَرَخَ: «يَا رَبُّ نَجِّنِي». 31فَفِي الْحَالِ مَدَّ يَسُوعُ يَدَهُ وَأَمْسَكَ بِهِ وَقَالَ لَهُ: «يَا قَلِيلَ الإِيمَانِ لِمَاذَا شَكَكْتَ؟» 32وَلَمَّا دَخَلاَ السَّفِينَةَ سَكَنَتِ الرِّيحُ. 33وَﭐلَّذِينَ فِي السَّفِينَةِ جَاءُوا وَسَجَدُوا لَهُ قَائِلِينَ: «بِالْحَقِيقَةِ أَنْتَ ابْنُ اللَّهِ!»". متى ١٤: ٢٢-٣٣

 

أعتقدُ أنَّ جميعَنا نمرُّ بهذِهِ التّجرِبَةِ وهو تأثُّرُنا الشديدُ بالأجواءِ المُحيطَةِ مما يُفقِدُنا التّركيزَ على الربِّ، كيفَ نواجِهُ هذه المُشكلَةَ؟ أن نحافِظَ على سلامِنا بالمسيحِ وهذا يأتي بالتدريبِ والنمُوِّ بمساعدَةِ الرّوحِ القدُسِ إذ نرى لاحقاً أنَّ بطرُسَ تغيّرَ كثيراً بعدَما حلَّ عليهِ الروحُ القدُسُ وباتَ لا يخافُ وهو يُبَشِّرُ بكلمَةِ الإنجيلِ على الرّغمِ مِنَ الظّروفِ الصّعبَةِ للبِشارَةِ.

 

الشّكُّ يكونُ صعبَ الاقتلاعِ عندَ الفلاسفَةِ، المملوئينَ كِبرياءً، المكَبَّلينَ بمتراكماتِ الماضي والذينَ لديهِم أمراضٌ نفسِيّةٌ. ولكن مَنِ الذي ينتصِرُ على الشّكِّ؟ يُجيبُ عن هذا السؤالِ يعقوبُ الرسولُ في هذا النّصِّ:

 

"5وَإِنَّمَا إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ تُعْوِزُهُ حِكْمَةٌ فَلْيَطْلُبْ مِنَ اللَّهِ الَّذِي يُعْطِي الْجَمِيعَ بِسَخَاءٍ وَلاَ يُعَيِّرُ، فَسَيُعْطَى لَهُ. 6وَلَكِنْ لِيَطْلُبْ بِإِيمَانٍ غَيْرَ مُرْتَابٍ الْبَتَّةَ، لأَنَّ الْمُرْتَابَ يُشْبِهُ مَوْجاً مِنَ الْبَحْرِ تَخْبِطُهُ الرِّيحُ وَتَدْفَعُهُ. 7فَلاَ يَظُنَّ ذَلِكَ الإِنْسَانُ أَنَّهُ يَنَالُ شَيْئاً مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ. 8رَجُلٌ ذُو رَأْيَيْنِ هُوَ مُتَقَلْقِلٌ فِي جَمِيعِ طُرُقِهِ. 9وَلْيَفْتَخِرِ الأَخُ الْمُتَّضِعُ بِارْتِفَاعِهِ، 10وَأَمَّا الْغَنِيُّ فَبِاتِّضَاعِهِ، لأَنَّهُ كَزَهْرِ الْعُشْبِ يَزُولُ. 11لأَنَّ الشَّمْسَ أَشْرَقَتْ بِالْحَرِّ، فَيَبَّسَتِ الْعُشْبَ، فَسَقَطَ زَهْرُهُ وَفَنِيَ جَمَالُ مَنْظَرِهِ. هَكَذَا يَذْبُلُ الْغَنِيُّ أَيْضاً فِي طُرُقِهِ. 12طُوبَى لِلرَّجُلِ الَّذِي يَحْتَمِلُ التَّجْرِبَةَ، لأَنَّهُ إِذَا تَزَكَّى يَنَالُ «إِكْلِيلَ الْحَيَاةِ» الَّذِي وَعَدَ بِهِ الرَّبُّ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ". يعقوب ١

للتدَرُّبِ لهذا المستوى نحتاجُ أن ننظُرَ المسيحَ بكُلِّ تصرّفٍ يدعونا للشّكِّ ونتبعَ خطواتِه. لنقرأَ هذا النّصَّ:

 

"18وَفِي الصُّبْحِ إِذْ كَانَ رَاجِعاً إِلَى الْمَدِينَةِ جَاعَ 19فَنَظَرَ شَجَرَةَ تِينٍ عَلَى الطَّرِيقِ وَجَاءَ إِلَيْهَا فَلَمْ يَجِدْ فِيهَا شَيْئاً إِلاَّ وَرَقاً فَقَطْ. فَقَالَ لَهَا: «لاَ يَكُنْ مِنْكِ ثَمَرٌ بَعْدُ إِلَى الأَبَدِ». فَيَبِسَتِ التِّينَةُ فِي الْحَالِ. 20فَلَمَّا رَأَى التَّلاَمِيذُ ذَلِكَ تَعَجَّبُوا قَائِلِينَ: «كَيْفَ يَبِسَتِ التِّينَةُ فِي الْحَالِ؟» 21فَأَجَابَ يَسُوعُ: «اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ كَانَ لَكُمْ إِيمَانٌ وَلاَ تَشُكُّونَ فَلاَ تَفْعَلُونَ أَمْرَ التِّينَةِ فَقَطْ بَلْ إِنْ قُلْتُمْ أَيْضاً لِهَذَا الْجَبَلِ: انْتَقِلْ وَانْطَرِحْ فِي الْبَحْرِ فَيَكُونُ. 22وَكُلُّ مَا تَطْلُبُونَهُ فِي الصَّلاَةِ مُؤْمِنِينَ تَنَالُونَهُ»". متى ٢١

في وقتِ الهُدوءِ ممكِنٌ التفكيرُ بأنّنا لن نشُكَّ، ولكِنَّ ضوضاءَ الأجواءِ المحيطَةِ سيُغيِّرُ لاحقاً ذلكَ التّفكيرَ، لنقرأْ هذا النصَّ:

"حِينَئِذٍ قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «كُلُّكُمْ تَشُكُّونَ فِيَّ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: أَنِّي أَضْرِبُ الرَّاعِيَ فَتَتَبَدَّدُ خِرَافُ الرَّعِيَّةِ. وَلَكِنْ بَعْدَ قِيَامِي أَسْبِقُكُمْ إِلَى الْجَلِيلِ». 33فَقَالَ بُطْرُسُ لَهُ: «وَإِنْ شَكَّ فِيكَ الْجَمِيعُ فَأَنَا لاَ أَشُكُّ أَبَداً». قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «ﭐلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنَّكَ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ دِيكٌ تُنْكِرُنِي ثَلاَثَ مَرَّاتٍ». قَالَ لَهُ بُطْرُسُ: «وَلَوِ اضْطُرِرْتُ أَنْ أَمُوتَ مَعَكَ لاَ أُنْكِرُكَ!» هَكَذَا قَالَ أَيْضاً جَمِيعُ التَّلاَمِيذِ". متى ٢٦: ٣١-٣٥

الخلاصةُ:

الشكُّ هو شيءٌ فِطرِيٌّ، وعلينا استخدامَهُ لرَدءِ الهرطَقاتِ والأفكارِ الخاطِئَةِ مِن خِلالِ البحثِ وطلَبِ حكمَةِ الربِّ، أمّا في علاقَتِنا معَ الربِّ فإنَّ الشكَّ مَرفوضٌ تماماً ويجبُ توليدُ الشّجاعَةَ وعدمُ التأثّرِ بالأجواءِ المحيطةِ ونحنُ نسيرُ مع الربِّ في غُربَةِ هذا العالَمِ ودُمتُم في أمجادِ الملكوتِ.

 

هل لديك استفسار؟ اكتب لنا رايك على من خلال This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it. 

 

لتحميل نسخة من هذا المقال, يرجى الضغظ هنا