مار افرام السرياني

 

 وُلد مار افرام في مدينة نصيبين في مطلع القرن الرابع للميلاد ، من ابوين مسيحيين ، ويَذكر في احدى كتاباته التي نُقلت الى اليونانية في عهده ثم نقلت الى العربية بعدئذ "انّ اللذين ولداه بالجسد ثقّفاه في الايمان المسيحي وربّياه على مخافة الرب وحدّثاه عما سبق فكابده آباؤه من العذاب في سبيل الحفاظ على الايمان وحب السيد المسيح

تَتلمذ ، في شرخ شبابه ،  لمار يعقوب اسقف نصيبين ، واعتمد على يديه وهو ابن ثماني عشرة سنة  فاحبّه هذا كثيراً واتخذه تلميذاً وكاتباً في آن واحد ورسمه شماساً والبسه الثوبالرهباني ، واصطحبه عام 325م الى مجمع نيقية ، وعلى اثر عودتهما من المجمع اسّس مار يعقوب في نصيبين مدرسة سلّم زمام التعليم فيها الى تلميذه مار افرام . وبعد انتقال مار يعقوب إِلى جوار ربه سنة 338م تسلّم مار افرام ادارة المدرسة ، وفيها نظّم القصائد البديعة والأناشيد الشجيّة التي تُعرف بالنصيبينية ، وتُعد صوراً رائعة لحياة ذلك العصر في تلك المنطقة ، ففيهايصف لنا ما قاسته مدينته في الحصارات والحروب ، حيث كانت بحكم موقعها على حدود الدولتين الفارسية والرومانية ، تتعرّض لحروب طاحنة ، فتخضع لسلطان الفرس حيناً والرومان احياناً ، وقد عاصر مار افرام هذه المآسي في الاعوام 338 و 359 و 363 ، ويظهر بكتاباته ما كان يكنّه قلبه الكبير وقلب كل مواطن صالح من ايمان بالله واتكال عليه تعالى ، كما انّه يقوّم ويثمّن مواقف رجالات الكنيسة المشرفة ، بتشجيع رعيتهم اوقات الحروب للدفاع عن المدينة ببسالة باذلين في سبيل ذلك النفس والنفيس كما يقرض اساقفة  نصيبين وهم مار يعقوب (+ 338) وخلفاءه بابويه (338-349) وولغش (349-361) وإِبراهيم (361)

وكانت اللغة السريانية لغة التدريس الرسمية في مدرسة نصيبين حيث كانت نصيبين في القرن الرابع مدينة سريانية قلباً وقالباً ، لغة وحضارة . وكانت مدرسة نصيبين تتّبع في الفلسفةطريقة مدرسة انطاكية التي كانت تعتمد على ارسطو اكثر من افلاطون ، وكانت مبادئها توجب في كل موضوع بساطةً في المنهج ، وكمالاً في الايضاح ، وادراكاً في تعليم الايمان

وقد تخرّج في هذه المدرسة علماء نوابغ ، ولا غرو فقد كان مديرها واستاذها الاول مار افرام عملاق الادب السرياني ، الذي منذ نعومة اظفاره كان يقضي بياضَ نهاره وسوادَ ليله في الدرس والتحصيل مكبّاً على مطالعة الكتاب المقدس فتعمّق في علومه ، واتقن اللغة السريانية وآدابها حتى عُدّ في الرعيل الاول بين اقطابها بل هو فارسها الذي لايجاري

وكان مار افرام صوّاما قوّاما ، ذبل جسده ورقّ نتيجة لتطرفه واغراقه في حياة الزهد ، وقد وصفه مار غريغوريوس النوسي (+396) قائلا : " انه لم ياكل سوى خبز الشعير والبقولالمجفّفة ، ولم يشرب سوى الماء ، حتى حاكى هيكلاً عظيماً بل تمثالاً من الفخار ، امّا لباسه فكان ثوباً خلقاً بل اطماراً بالية"

ولم تكن الرهبانية لديه تصوّفا وانقطاعاً عن العالم وصوماً وصلاةً فحسب بل كانت ايضاً خدمة للانسانية ، ووسيلة لحفظ التراث القومي ، لذلك جعل من الاديرة مركزاً مهماً للعلم والمعرفة حيث ازدهرت العلوم والآداب ، واقتداءً به اكبّ تلاميذه ومن بعدهم اغلب الرهبان السريان على الدرس والتحصيل ، وعكفوا على البحث والتأَليف ، فتركوا لنا آثاراً ادبية قيّمة ونفيسة تعجّ بها مكتبات العالم اليوم وبذلك اسهموا في رُقي بلادهم وازدهارها ونشر الحضارة فيها

وعندما سُلمت نصيبين الى الفرس سنة 363م هجرها مار افرام وبرفقته نخبة طيبة من اساتذه مدرستها وتلامذتها وجاءوا الى الرها ، فكان مار افرام تارةً يتنسك في مغارة في جبلها المقدس ، وتارةً يتفرغ للتدريس في مدرستها الشهيرة التي كانت قد اسست في فجر المسيحية فجدّدها مار افرام وصحبه وازدهرت على ايديهم ، ودامت حتى عام 489 . وكان تلامذتها - واغلبهم من بلاد فارس - يتلقون دروساً في شرح الكتاب المقدس بعَهديه معتمدين بذلك على تفسير مار أَفرام وهو اقدم من فسّر الكتاب المقدس عند السريان ، كما كانوا ياخذون عنه العلوم اللاهوتية لاثبات حقائق الدين المبين ومناهضة تعاليم طيطيانس ومرقيون وبرديصان وماني وآريوس ، وبدعهم الوخيمة . فَعَدت كتاباته مثالاً للتعاليم اللاهوتية في الكنيسة السريانية

واهتمّت مدرسة الرها ايضاً بتدريس الفلسفة على مذهب ارسطو وتلقين طلابها العلوم اللغوية والادبية باللغتين السريانية واليونانية

وقيل انّ مار افرام قد زار الانبا بشواي وغيره من النسّاك في مصر . كما زار بعدئذ القديس مار باسيليوس اسقف قيصرية قبدوقية ( +379 ) . ويستبعد بعض النقاد هاتين الزيارتين

وفي الرها الّف مار افرام اول جوقة ترتيل من الفتيات السريانيات اللواتي علمهنّ ما ابتكره ، او ما كان اقتبسه من الانغام الموسيقية ، وما نظّمه من القصائد الروحية ، والتراتيل الشجيّة التي ضمنها العقائد الدينية وصورة الايمان المستقيم ، فكنّ يتغنين بها في الكنيسة اثناء الصلاة20. فالى مار افرام يعود الفضل في تنظيم الحياة الطقسية في الكنيسة السريانية وبتآليف الجوقات الكنسية

وعندما حلّت المجاعة في الرها في شتاء عام 372 - 373 ومات عدد غير يسير من اهلها اخذ مار افرام يطوف دور الاغنياء ويحثّهم على اعمال الرحمة ويجمع منهم الصدقات ويوزعها على الفقراء . كما اسّس دوراً جمع فيها ثلاثمائة سرير وقيل الفاً وثلاثمائة سرير صارت ملجأً للعجزة . وكان يشرف بنفسه على الاعتناء بهم . وعلى اثر الجوع انتشر وباء الطاعون ، فانبرى مار افرام في تطبيب المرضى وموآساتهم حتى اصيب بدوره بداء الطاعون واحتمل صابراً آلامه المبرحة ، وفاضت روحه الطاهرة في 9 حزيران عام 373م ودفن في مقبرة الغرباء في ظاهر مدينة الرها بناء على وصيته ، وبني على ضريحه دير عُرف بالدير السفلي ثم نُقل رفاته الطاهر الى مقبرة الاساقفة في كنيسة الرها الكبرى ، وقيل انّه نُقل عام1145م الى اوروبا مع ذخائر بعض القديسين وعيّدت له الكنيسة شرقاً وغرباً

وفي الساعات الاخيرة من حياته المجيدة ، وفي لحظات احتضاره الرهيبة ، املى على تلاميذه وصيته الاخيرة شعراً فاهتموا بتدوينها حالاً ، وقد ترجمت الى اليونانية بعد وفاته بمدة وجيزة ، واستشهد بها القديس غريغوريوس النوسي (+396) خمس مرات في تقريضه اياه . وقد اعترف مار افرام بوصيته هذه بايمانه ، وبين تمسكه بالعقيدة المسيحية ، وحثّ تلاميذه على  التشبه به

 

 

مؤَلفاته

 

 ادرك مار افرام اللغة السريانية نقيّة صافية خالية من العجمة وسائر الشوائب ، وغنيّة  واسعة واداة طيّعة في التعبير عن مختلف الاهداف الفكرية ، وشتى الاغراض الكلامية ، فكتب فيها تفاسيره نظماً ونثراً ، ودبج روائعه وبدائعه التي صارت مفخرة الادب السرياني . وكان له القدح المعلى في تقديم مدرستي نصبين والرها السريانيتين حيث وَجدت لها اللغة السريانية مرتعاً خصباً فنمت وازدهرت

 

تناول مار افرام الكتاب المقدس بعهديه شرحاً وتفسيراً وقد اعتمد الترجمة البسيطة ، ولكثرة شروحه صرّح بعضهم قائلاً : " لو نفذت ترجمة الكتاب المقدس السريانية الاصلية لتيسر جمعَ نصوصِها من تصانيف مار افرام "

 

وقد اتبع بالتفسير طريقة مدرسة انطاكية بشرح النص آية آية بالمعنى الحرفي بمفهوميه الحقيقي والمجازي ولم يبق من تفاسيره هذه سوى شرح سفر التكوين وجزء من سفر الخروج ، وشذور متفرقة من أَسفار العهد القديم  نجدها في مجموعة الراهب سويريوس (+ 861)

 

اما تفسيره للانجيل المختلط المعروف بالدياطسرون الذي وضعه ططيانس عام 170 م فلم يصل الى ايدينا منه سوى ترجمته الارمنية33 كما لم يبق من تفاسيره لرسائل الرسول بولس سوى آيات يسيرة ضمن تفسير الانجيل ليشوعداد المروزي اسقف الحديثة النسطوري (840 - 853) . وله مواعظ هي شروح لفصول من الكتاب المقدس ، وله ايضاً مقالات في محبة العلي وفصول مختارة من كتاب وُسم بـ "كتاب الآراءوهو في حياة النسك والرهبنة .  وارسل خطابين الاول الى دمنوس في نقض الهراطقة ، والثاني الى هيباتيوس رداً على مرقيون وبرديصان وماني ، ورسالة بعث بها الى الرهبان ساكني  الجبال ، ومجموعة قوانين في الرهبنة فُقد اصلها السرياني وحُفظ النقل اليوناني اورد ذكرها غريغوريوس النوسي (+ 396) ، ولم يبق من القصص التي الّفها سوى قصة بطرس الرسول . وقد نسب اليه كتاب وُسم بـ" غار الكنوز " وهو قصة آدم وحواء بعد ان طُردا من الجنة ، كما وُضع عليه خط عظة في نهاية العالم ورد فيها ذكر غزوة الهون التي حصلت في تموز سنة 396م اي بعد وفاته بثلاث وعشرين سنة . وكذلك عُزي اليه تأَبين للقديس باسيليوس الكبير الذي مات بعد موت مار افرام بست سنوات

 

لقد نظم مار افرام الشعر السرياني على البحر السباعي خاصة ، وارتأَى بعضهم انه قد استنبطه فسُمي ايضاً بالافرامي او انّه اخذه عمّن سبقه من الشعراء الذين فقد شعرهم وتعدّ ابيات بعض قصائده بالآلاف . كما نظّم المداريش اي الاناشيد وهي ابيات من الشعر تُصاغ على اوزان مختلفة والحان شتى بلغ عددها الخمسمائة استنبطها برديصان (222 +) . ولم يعتمد مار افرام القافية في نظمه ، لأنّ السريان لم يدخلوها في شعرهم حتى صدر القرن التاسع متأَثرين بذلك بالعرب ، ولا نعرف عدد قصائده واناشيده التي ضاع جانب كبير منها ، وما تبقى منها اليوم يُعد بالمئات

 

وهو شاعر فحل ، طويل النفس ، يمتاز اسلوبه بالاسهاب ، وشعره عامة سلس ، يرسله على السليقة فيتدفق كالسيل العرم . وتناول بشعره شتّى المواضع الدينية ، العقائدية منهاوالروحية ، فبجّل السيد المسيح، وطوّب امه العذراء مريم ، ومدح الابرار والصالحين وغبط الزهاد والمتوحدين ، ورَى النفس الخاطئة وحثّها على التوبة، وهجا الكفرة وكفرهم بشخص يوليان الامبراطور الجاحد ، وقرع البدع والمبتدعين خاصةً ماني ومرقيون وبرديصان وآريوس ، واكثر من سرد الحكم في قصائده النفيسة ، واناشيده البديعة ، التي كانت تعبّر عما احتواه قلبه الكبير من الايمان ، وما استوعبه عقله الجبار من الحكمة ، وقد حازت مكانة القمة في الكنيسة السريانية فادخلت الطقس البيعي وهو حيّ

 

ولاهمية مؤَلفات مار افرام نُقلت الى اليونانية وهو حي او في العقد الاول بعد وفاته ، كما نُقلت بعدئذ الى لغات شتى نخصّ بالذكر منها لغة الضاد فقد نقل  اليها  ابراهيم بن يوحنا الانطاكي سنة 980م عدداً من مقالاته في الرهبنة ، كما وصل الينا منها ايضاً احدى وخمسون مقالة نقلت من اليونانية اليها حوالي القرن الحادي عشر نقلاً فيه الجيد وفيه الملحون واصلها السرياني مفقود . ومنذ القرن الثامن عشر وحتى اليوم حقّق علماء الاستشراق الافذاذ وبعض الشرقيين ، اغلب مؤَلفات مار افرام الشعرية والنثرية ونشروها بالطبع وترجموها الى اللغاتاللاتينية والانكليزية والفرنسية والالمانية والايطالية وغيرها . ومن محاسن مؤلفات مار افرام ان ترجمتها لم تفقدها شيئاً من عذوبة فصاحتها الفطرية فهي اذا قرأَت باليونانية مثلاً احدثت نفس التاثير والاعجاب الذي تحدثه قراءتها في اصلها السرياني"

 

لقد زينت آثار مار افرام مكتبات الشرق والغرب وهي تعتبر من نفائس المخطوطات في دنيا المكتبات ونظر العلم والفن ، اذ يرجع تاريخ بعضها الى القرون الخامس والسادس والسابعللميلاد . وتوجد في مكتبات معظم حواضر الشرق العربي الشهيرة ، ومدينة الفاتيكان ، والمتحف البريطاني ، واوكسفورد ، وبرمنكهام ، وكمبرج ، وباريس ، وشيكاغو وغيرها

 

أقواله:

 

- نج اَخاك من الخطية ينجيك الرب في يوم الدينونة

- ان الحكيم لا يبغض احداً ، وان ابغض فإنما يبغض الجاهل . اما  الجاهل فلا يحب احداً فانّه يحب رفيقه الجاهل

 اقتن الذهب بمقدار امّا العلم فاكتسبه بلا حد ،  لان الذهب يكثر الآفات واما العلم فيورث الراحة والنعيم

- كن في فتوتك متواضعاً لترتفع في شيخوختك

 انّ الحكمة افضل من الزينة ، والعلم خير من الاموال ، وفتى حدثاً حكيماً خير من ملك شيخ جاهل

 الحسد سهم نافذ يقضي على راميه

- من يمتلك ذهباً خالصاً لا يخشى من امتحانه بالنار

 ليس بكثرة البنين تكون الحياة للآباء

 اذا شاء ربّ البرايا قام الولد الواحد مقام الكثيرين

 

بقلم: المتنيح البطريرك زكا عيواص - بطريرك انطاكية وسائِر المشرق للسريان الارثوذكس