القديس مار متى الناسك والشهداء مار بهنام وسارة ورفاقهما الأربعين  

 

لقصة هؤلاء القديسين نسخة سريانية بليغة العبارة لمؤلف مجهول، يظن أنه أحد رهبان دير مار متى، يعود تاريخ نسخها الى القرن السابع للميلاد. 
ولعل الكاتب عاصر مار متى الناسك أو كان في عهد مار زكا خليفة مار متى. وربما كان مصير النسخة الأصلية مصير غيرها من نفائس مخطوطات دير مار متى التي أحرقها برصوم النصيبيني سنة 480م ولهذه القصة أيضاً نسخة في مكتبة لندن، ومخطوطة كُتبت عام 1199م في دير والدة الاله في مصر، وأخرى ليست أحدث منها كُتبت في دير والدة الاله في الرها. وتحتفظ مكتبة برلين ومكتبة الفاتيكان بمخطوطتين أخريين اعتمدهما الاب بولس بيجان في نشر القصة بالطبع عام 1891م وكأغلب قصص لشهداء والقديسين، لا تخلو هذه القصة من زيادات أضافها إليها النساخ جهلاً، وهي لاتخفى على القارئ اللبيب، لذلك فبعد تحري الحقائق التاريخية نقدم القصة خالية من الزوائد بعيدة عن المغالاة.

ولادة مار متى ونشأته:
وُلد مار متى في قرية ابجر شمالي في ديار بكر في الربع الأول من القرن الرابع، وكان والداه مسيحيين بارين تقين سالكين بحسب شريعة الرب بلا لوم. وقد أنعم اللّـه عليهما بالمال الوافر والأولاد الصالحين. 
وتلقى متى مبادئ الدين المبين في دير مار سركيس وباخوس بجوار قريته، حيث قضى سبع سنين. ثم انتقل الى دير زوقنين بظاهر ديار بكر حيث لبس الاسكيم الرهباني ورسم كاهناً، وتبحر في الكتاب المقدس ومصنفات الأباء على أيدي أساتذة ماهرين ورهبان أتقياء. ولما أثار الامبراطور الروماني يوليانس الجاحد (361 ـ 363) اضطهاده على المسيحية في أطراف إمبراطوريته لاحق الرهبان يريد إبادتهم، فهرب مار متى الى البلاد التي كانت تحت حكم أثور حيث تنسك في كهف، كما سكن رفيقاه مار زكا ومار ابراهيم في الجبل نفسه، واقتدى بهم كثير من الشبان زهدوا بالدنيا وتنسكوا في كهوف الجبل وابتنوا لهم ديراً صغيراً يجتمعون فيه أيام الآحاد والأعياد للصلاة، وإقامة القداديس الالهية والاشتراك بتناول القربان المقدس. 
واشتهر مار متى بالتبشير في بالانجيل، وتعليم المؤمنين أصول الدين المسيحي المبين. كما عُرف بصنع المعجزات الباهرات. ومن أهم المعجزات التي صنعها اللّـه على يده شفاء سارة ابنة سنحاريب حاكم ولاية أثور وتعميدها مع أخيها بهنام ورفاقهما الأربعين. 
وتوفي مار متى في ديره شيخاً طاعناً في السن ودفن بجوار مذبح الكنيسة في الدير في موضع يدعى بيت القديسين. وتعيد له الكنيسة في 18 إيلول من كل سنة. 

الفتى بهنام يؤمن بالسيد المسيح: 
كان الفتى بهنام بن سنحاريب حاكم ولاية أثور احدى ولايات الدولة الفارسية التي كان ملكها عصرئذ شابور ( 309- 379) يدين بالوثنية ويضطهد المسيحيين بشراسة وضراوة. وكانت مدينة نمرود عاصمة ولاية أثور موطن الوالي سنحاريب وأفراد عائلته، وكانت قريبة من مدينة نينوى عاصمة المملكة الأشورية سابقاً. 
في غضون النصف الثاني من القرن الرابع حدث للفتى بهنام حدث غيَّر مجرى حياته. ذلك أنه خرج كعادته إلى الصيد يرافقه أربعون فارساً، ولم يعلم بأن اللّـه، جلَّ جلاله، هيّأ لاصطياده ورفقائه في شبكة الإنجيل المقدس. فقد أرسل تعالى ملاكه بشبه أيل كبير طارده الفتى بهنام ورفقاؤه إلى لحف جبل مقلوب، ثم توارى عن أبصارهم فجاء وقد غابت الشمس وخيَّم الظلام الدامس، فاضطروا الى المبيت حيث انتهوا بقرب عين ماء. 
وفي منتصف الليل تراءى ملاك الرب في الحلم للفتى بهنام وأعلن له: «أن اللّـه قد اختاره ليكون أحد أصفيائه القديسين، وأمره بأن يتوغل الجبل صباحاً ويقصد القديس الناسك الشيخ متى المقيم في هذا الجبل، فعلى يده سيظهر اللّـه تعالى إرادته الإلهية حيث سيرشده ورفاقه إلى طريق الحياة كما أنه على يد مار متى سيُطِّهر اللّـه سارة أخت بهنام من برصها». وفي الصباح الباكر استيقظ بهنام قلقاً وقص على رفاقه وقائع رؤياه، فشجعوه على الامتثال لأوامر الملاك، وصعدوا معه الجبل حيث استقبلهم الشيخ مار متى ببشاشة، وأخبرهم أن اللّـه أنبأه عن مجيئهم وأمره ليبشرهم بإنجيل الفداء. وشرح لهم مار متى أصول الدين المسيحي فآمن الفتى بهنام وطلب إلى مار متى أن يرافقه إلى أثور ليصلي إلى أخته سارة التي كانت مصابة بمرض الجذام (البرص)، وقد أعيى داؤها نطس الأطباء. فرافقهم مار متى ومعه أحد تلاميذه ولما وصلوا ظاهر المدينة طلب إليه بهنام أن ينتظره هناك ريثما يأتي بأخته سارة تاركاً معه بعض جنده. 
وأسرع الفتى بهنام يحمل البشارة إلى أمه كاشفاً لها سره وباسطاً أمامها دخيلة أمره، طالباً إليها أن تسمح له بأخذ أخته سارة إلى القديس الشيخ مار متى ليصلي عليها، فأذنت له والدته بذلك. 
ولما التقت سارة مار متى جثت أمامه فصلى عليها وبشرها بالمسيح يسوع فآمنت. فضرب مار متى الأرض بعصاه وتفجرت عين ماء عمد فيها سارة فطهرت حالاً من برصها، ثم عمد الفتى بهنام ورفقاءه الأربعين. 
وعاد مار متى إلى ديره ومنسكه في جبل مقلوب، وعاد الفتى بهنام وأخته سارة وصحبه الأربعون إلى المدينة وقد استناروا بنور المسيح. 
وذاع خبر شفاء سارة في أرجاء الولاية، وابتهج سنحاريب إذ علم ذلك، ولكن فرحته انقلبت إلى حزن عميق لما علم أن ولديه قد تنصرا. فاستدعاهما وحاول اقناعهما بترك دين المسيح والعودة إلى المجوسية والسجود للنار والتبخير للأصنام، فلم يجده ذلك نفعاً، وذهبت جهوده هباء. فتوعدهما بالعذابات الأليمة أن يرتدا عن المسيحية، واذ تأكدا بأنه قد صمم على قتلهما رأى بهنام أن يلتقي معلمه مار متى لنيل بركته قبل استشهاده، لذلك غادرالمدينة خلسة هو واخته وصحبه الأربعون، فوُشى بهم الى سنحاريب. فاستشاط هذا غضباً وأمر جنده باللحاق بهم وقتلهم حيثما وجدوا فأدركوهم على بضعة كيلو مترات من مدينة نمرود، فنحروهم نحر الخراف الوديعة على قمة تل، وهم يصلون مقدمين ذواتهم قرباناً للـه. طالبين إلى الرب أن يصفح عن الوالي سنحاريب وسائر من كان سبباً في استشهادهم. وعاد الجند إلى سنحاريب وأخبروه بكل ما كان، فسرَّ في بادئ الأمر، وتقّسى قلبه فأمر بحرق أجساد الشهداء. ولما عاد الجند إليهم رأوا الأجساد تشع نوراً كالشمس، وقبل الشروع بحرقها تزلزلت الأرض وانشقت وبتلعت الأجساد الطاهرة وأخفتها عن الأبصار.
وعلى أثر ذلك أصاب سنحاريب مسّ من الجنون، فكان يهذي، ويتألم، ويولول، ويمزق ثيابه، ويضرب جسمه، ويسقط على الأرض مصروعاً وينادي ويلاه! أين بهنام؟ وأين سارة؟... فظهر ملاك الرب في الحلم إلى والدة مار بهنام وقال لها: «إن كنت ترغبين في شفاء زوجك فخذيه إلى حيث قتل الشهداء الأبرار». فلما استيقظت فعلت ما أمرها الملاك به وأخذت زوجها إلى الموضع الذي استشهد فيه ولداها بهنام وسارة، وباتا ليلتهما هناك. فظهر مار بهنام لأمه في الحلم وقال لها: «أرسلي وادعي القديس متى ليصلي على أبي فيشفى»، ففي الصباح لما استيقظت بعثت أناساً ليأتوا بمار متى، فلبّى مار متى الدعوة وجاء إلى حيث كان سنحاريب، وصلى عليه فنال سنحاريب الشفاء التام، ورجع إلى رشده وآمن بالرب يسوع واعتمد على يد مار متى هو وزوجته وعظماء ولايته. 

دير مار متى: 
وشيد مار متى ورفقاؤه بمساعدة الوالي سنحاريب ديراً عظيماً في جبل مقلوب مكان الدير الذي كان يجتمع فيه مار متى ورفقاؤه النساك، أضحى من أشهر أديرة ما بين النهرين نظراً للادوار المهمة التي لعبها في تاريخ كنيسة المشرق بعدئذ بعديد نساكه حيث عُدوا بالالوف، فسمي جبل الألوف أو الألفاف، كما اشتهر بمعهده اللاهوتي والعلماء الفطاحل الذين تخرجوا فيه. فقد كان موطناً للتعليم منذ العقد الثالث من القرن السابع وحتى أواخر القرن الثالث عشر، ومنه شع نور الانجيل في جوانب كثيرة من بلاد المشرق كما اشتهر بمكتبته الذائعة الصيت. وبالرغم من الشدائد العنيفة التي المت بهذا الدير على مر العصور والأجيال فما يزال بعض أبنيته ماثلة الى اليوم. ويعتبر أثراً خالداً ينطق بمجد السلف الصالح على الصعيدين الروحي والعلمي. 

دير مار بهنام:
وبنى الوالي سنحاريب بارشاد مار متى قبة على المكان الذي انشقت فيه الأرض وابتلعت أشلاء الشهداء ماربهنام وأخته سارة ورفقائه الأربعين. وتسمى تلك البعقة (معبد الجب) وهي قائمة الى اليوم. 
وقد صنعت معجزات لا تحصى بالتشفع بمار بهنام وأخته سارة. واتفق أن تاجراً فارسياً، اسمه اسحق، قصد الحج إلى الأماكن المقدسة والتبرك بمهد السيد المسيح وقبره الفارغ فمر بمعبد الجب وتبرك بمكان ضريح القديس مار بهنام واطلع على أخباره، فشاد له هيكلاً جميلاً شائقاً على أثر شفاء فتاة بصلاة القديس مار بهنام. وبعد بضع سنين شيد دير مهم على اسم مار بهنام بجانب معبد الجب عُرف بدير الجب أو دير مار بهنام أو دير الخضر، ويقع جنوبي مدينة الموصل على بعد خمسة وثلاثين كيلو متراً، صار كرسياً أسقفياً في القرن السادس عشر. وفي عام 1839 صار بيد السريان الكاثوليك وذلك بمساعدة القنصل الفرنسي في الموصل. وهو عامر إلى اليوم، وآثاره نفيسة...
وتُعيّد الكنيسة لمار بهنام وأخته سارة ورفقائه الشهداء الأربعين في العاشر من شهر كانون الأول من كل عام، وتطنب في أوصافه في صلواتها الطقسية.

صلواتهم معنا

 

المصدر: الموقع الرسمي لبطريركية انطاكية وسائر المشرق للسريان الارثوذكس